الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)
{ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون}..وهو أمر للرسول صلى الله عليه وسلم أن يولي وجهه شطر المسجد من حيث خرج، وإلى المسلمين أن يولوا وجوههم شطره حيثما كانوا وبيان لعلة هذا التوجيه:{لئلا يكون للناس عليكم حجة}..وتهوين لما بعد ذلك من أقاويل الظالمين الذين لا يقفون عند الحجة والنطق، إنما ينساقون مع العناد واللجاج. فهؤلاء لا سبيل إلى إسكاتهم، فسيظلون إذن في لجاجهم. فلا على المسلمين منهم:{فلا تخشوهم واخشوني}..فلا سلطان لهم عليكم، ولا يملكون شيئاً من أمركم، ولا ينبغي أن تحفلوهم فتميلوا عما جاءكم من عندي، فأنا الذي استحق الخشية بما أملك من أمركم في الدنيا والآخرة.. ومع التهوين من شأن الذين ظلموا، والتحذير من بأس الله، يجيء التذكير بنعمة الله، والإطماع في اتمامها على الأمة المسلمة، حين تستجيب وتستقيم:{ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون}...وهو تذكير موح، وإطماع دافع، وتلويح بفضل عظيم بعد فضل عظيم..ولقد كانت النعمة التي يذكرهم بها حاضرة بين أيديهم، يدركونها في أنفسهم، ويدركونها في حياتهم، ويدركونها في مجتمعهم وموقفهم في الأرض ومكانهم في الوجود..كانوا هم أنفسهم الذين عاشوا في الجاهلية بظلامها ورجسها وجهالتها، ثم انتقلوا هم أنفسهم إلى نور الإيمان وطهارته ومعرفته. فهم يجدون في أنفسهم أثر النعمة جديداً واضحاً عميقاً.وكانوا هم أنفسهم الذين عاشوا في الجاهلية قبائل متناحرة، ذات أهداف صغيرة واهتمامات محدودة. ثم انتقلوا هم أنفسهم إلى الوحدة تحت راية العقيدة، وإلى القوة والمنعة، وإلى الغايات الرفيعة والاهتمامات الكبيرة التي تتعلق بشأن البشرية كلها لا بشأن ثأر في قبيلة! فهم يجدون أثر النعمة من حولهم كما وجدوه في أنفسهم.وكانوا هم أنفسهم الذين عاشوا في الجاهلية في مجتمع هابط دنس مشوش التصورات مضطرب القيم.. ثم انتقلوا هم أنفسهم إلى مجتمع الإسلام النظيف الرفيع، الواضح التصور والاعتقاد، المستقيم القيم والموازين.فهم يجدون أثر النعمة في حياتهم العامة كما وجدوه في قلوبهم وفي مكانهم من الأمم حولهم.فإذا قال الله لهم: {ولأتم نعمتي عليكم}.. كان في هذا القول تذكير موح، وإطماع دافع وتلويح بفضل عظيم بعد فضل عظيم..ونجد في تكرار الأمر بشأن القبلة الجديدة معنى جديداً في كل مرة.. في المرة الأولى كان الأمر بالتوجه إلى المسجد الحرام استجابة لرغبة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد تقلب وجهه في السماء وضراعته الصامتة إلى ربه.. وفي الثانية كان لإثبات أنه الحق من ربه يوافق الرغبة والضراعة.. وفي الثالثة كان لقطع حجة الناس، والتهوين من شأن من لا يقف عند الحق والحجة..ولكننا- مع هذا- نلمح وراء التكرار أنه كانت هناك حالة واقعة في الصف الإسلامي تستدعي هذا التكرار، وهذا التوكيد، وهذا البيان، وهذا التعليل، مما يشي بضخامة حملة الأضاليل والأباطيل، وأثرها في بعض القلوب والنفوس. هذا الأثر الذي كان يعالجه القرآن الكريم؛ ثم تبقى النصوص بعد ذلك على مدى الزمان تعالج مثل هذه الحالة في شتى صورها؛ في المعركة الدائبة التي لا تهدأ ولا تفتر ولا تلين!واستطراداً مع هذا الغرض نرى السياق يستطرد في تذكير المسلمين بنعمة الله عليهم، بإرسال هذا النبي منهم إليهم، استجابة لدعوة أبيهم إبراهيم، سادن المسجد الحرام قبلة المسلمين؛ ويربطهم- سبحانه- به مباشرة في نهاية الحديث:{كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون فاذكروني اذكركم واشكروا لي ولا تكفرون}..والذي يلفت النظر هنا، أن الآية تعيد بالنص دعوة إبراهيم التي سبقت في السورة، وهو يرفع القواعد من البيت هو وإسماعيل. دعوته أن يبعث الله في بنيه من جيرة البيت، رسولاً منهم، يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم.. ليذكر المسلمين أن بعثة هذا الرسول فيهم، ووجودهم هم أنفسهم مسلمين، هو الاستجابة المباشرة الكاملة لدعوة أبيهم إبراهيم. وفي هذا ما فيه من إيحاء عميق بأن أمرهم ليس مستحدثاً إنما هو قديم؛ وأن قبلتهم ليست طارئة إنما هي قبلة أبيهم إبراهيم، وأن نعمة الله عليهم سابغة فهي نعمة الله التي وعدها خليله وعاهده عليها منذ ذلك التاريخ البعيد.إن نعمة توجيهكم إلى قبلتكم، وتمييزكم بشخصيتكم هي إحدى الآلاء المطردة فيكم، سبقتها نعمة إرسال رسول منكم:{كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم}..فهو التكريم والفضل أن تكون الرسالة فيكم، وأن يختار الرسول الأخير منكم، وقد كانت يهود تستفتح به عليكم!{يتلو عليكم آياتنا}..فما يتلو عليكم هو الحق.. والإيحاء الآخر هو الإشعار بعظمة التفضل في أن يخاطب الله العبيد بكلامه يتلوه عليهم رسوله. وهو تفضل يرتعش القلب إزاءه حين يتعمق حقيقته.فمن هم هؤلاء الناس؟ من هم وما هم؟ حتى يخاطبهم الله سبحانه بكلماته، ويتحدث إليهم بقوله، ويمنحهم هذه الرعاية الجليلة؟ من هم وما هم لولا أن الله يتفضل؟ ولولا أن فضل الله يفيض؟ ولولا أنه- سبحانه- منذ البدء منحهم فضل النفخة من روحه ليكون فيهم ما يستأهل هذا الإنعام، وما يستقبل هذا الإفضال؟{ويزكيكم}..ولولا الله ما زكي منهم من أحد، ولا تطهر ولا ارتفع. ولكنه أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم يطهرهم. يطهر أرواحهم من لوثة الشرك ودنس الجاهلية، ورجس التصورات التي تثقل الروح الإنساني وتطمره. ويطهرهم من لوثة الشهوات والنزوات فلا ترتكس أرواحهم في الحمأة. والذين لا يطهر الإسلام أرواحهم في جنبات الأرض كلها قديماً وحديثاً يرتكسون في مستنقع آسن وبيء من الشهوات والنزوات تزري بإنسانية الإنسان، وترفع فوقه الحيوان المحكوم بالفطرة، وهي أنظف كثيراً مما يهبط إليه الناس بدون الإيمان! ويطهر مجتمعهم من الربا والسحت والغش والسلب والنهب.. وهي كلها دنس يلوث الأرواح والمشاعر، ويلطخ المجتمع والحياة. ويطهر حياتهم من الظلم والبغي وينشر العدل النظيف الصريح الذي لم تستمتع به البشرية كما استمتعت في ظل الإسلام وحكم الإسلام ومنهج الإسلام ويطهرهم من سائر اللوثات التي تلطخ وجه الجاهلية في كل مكان من حولهم، وفي كل مجتمع لا يزكيه الإسلام بروحه ومنهجه النظيف الطهور..{ويعلمكم الكتاب والحكمة}..وفيها شمول لما سبق من تلاوة الآيات وهي الكتاب؛ وبيان للمادة الأصيلة فيه، وهي الحكمة، والحكمة ثمرة التعليم بهذا الكتاب؛ وهي ملكة يتأتى معها وضع الأمور في مواضعها الصحيحة، ووزن الأمور بموازينها الصحيحة، وإدراك غايات الأوامر والتوجيهات.. وكذلك تحققت هذه الثمرة ناضجة لمن رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وزكاهم بآيات الله.{ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون}..وكان ذلك حقاً في واقع الجماعة المسلمة، فقد التقطها الإسلام من البيئة العربية لا تعلم إلا أشياء قليلة متناثرة، تصلح لحياة القبيلة في الصحراء، أو في تلك المدن الصغيرة المنعزلة في باطن الصحراء. فجعل منها أمة تقود البشرية قيادة حكيمة راشدة، خبيرة بصيرة عالمة.. وكان هذا القرآن- مع توجيهات الرسول المستمدة كذلك من القرآن- هو مادة التوجيه والتعليم. وكان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يتلى فيه القرآن والتوجيهات المستمدة من القرآن- هو الجامعة الكبرى التي تخرج فيها ذلك الجيل الذي قاد البشرية تلك القيادة الحكيمة الراشدة: القيادة التي لم تعرف لها البشرية نظيراً من قبل ولا من بعد في تاريخ البشرية الطويل.وما يزال هذا المنهج الذي خرّج ذلك الجيل وتلك القيادة على استعداد لتخريج أجيال وقيادات على مدار الزمان لو رجعت الأمة المسلمة إلى هذا المعين ولو آمنت حقا بهذا القرآن ولو جعلته منهجاً للحياة لا كلمات تغنى باللسان لتطريب الآذان!وفي آخر هذا الدرس يتفضل الله على المسلمين تفضلاً آخر، وهو يدعوهم إلى شكره ويحذرهم من كفره.يتفضل عليهم فيضمن لهم أن يذكرهم إذا هم ذكروه.{فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون}..يا للتفضل الجليل الودود! الله جل جلاله. يجعل ذكره لهؤلاء العبيد مكافئاً لذكرهم له في عالمهم الصغير.. إن العبيد حين يذكرون ربهم يذكرونه في هذه الأرض الصغيرة.. وهم أصغر من أرضهم الصغيرة! والله حين يذكرهم يذكرهم في هذا الكون الكبير.. وهو الله العلي الكبير.. أي تفضل! وأي كرم! وأي فيض في السماحة والجود!{فاذكروني اذكركم}.إنه الفضل الذي لا يفيضه إلا الله الذي لا خازن لخزائنه، ولا حاسب لعطاياه. الفضل الفائض من ذاته تعالى بلا سبب ولا موجب إلا أنه هكذا هو سبحانه فياض العطاء.وفي الصحيح: يقول الله تعالى: «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه».وفي الصحيح أيضاً: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل: «يا ابن آدم إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي، وإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ من الملائكة- أو قال في ملأ خير منه- وإن دنوت مني شبراً دنوت منك ذراعاً، وإن دنوت مني ذراعاً دنوت منك باعا، وإن أتيتني تمشي أتيتك هرولة» إنه ذلك الفضل الذي لا يصفه لفظ ولا يعبر عن شكره الحق إلا سجود القلب..وذكر الله ليس لفظاً باللسان إنما هو انفعال القلب معه أو بدونه، والشعور بالله ووجوده والتأثر بهذا الشعور تأثراً ينتهي إلى الطاعة في حده الأدنى، وإلى رؤية الله وحده ولا شيء غيره لمن يهبه الله الوصول ويذيقه حلاوة اللقاء..{واشكروا لي ولا تكفرون}..والشكر لله درجات، تبدأ بالاعتراف بفضله والحياء من معصيته. وتنتهي بالتجرد لشكره والقصد إلى هذا الشكر في كل حركة بدن، وفي كل لفظة لسان، وفي كل خفقة قلب، وفي كل خطرة جنان.والنهي عن الكفر هنا إلماع إلى الغاية التي ينتهي إليها التقصير في الذكر والشكر؛ وتحذير من النقطة البعيدة التي ينتهي إليها هذا الخط التعيس! والعياذ بالله!ومناسبة هذه التوجيهات والتحذيرات في موضوع القبلة واضحة. وهي النقطة التي تلتقي عندها القلوب لعبادة الله، والتميز بالانتساب إليه، والاختصاص بهذا الانتساب.وهي كذلك واضحة في مجال التحذير من كيد يهود ودسها؛ وقد سبق أن الغاية الأخيرة لكل الجهود هي رد المؤمنين كفاراً. وسلبهم هذه النعمة التي أنعم الله بها عليهم.. نعمة الإيمان أكبر الآلاء التي ينعم الله بها على فرد أو جماعة من الناس. وهي بالقياس إلى العرب خاصة النعمة التي أنشأت لهم وجوداً، وجعلت لهم دوراً في التاريخ، وقرنت اسمهم برسالة يؤدونها للبشرية، وكانوا بدونها ضائعين، ولولاها لظلوا ضائعين، وهم بدونها أبداً ضائعون.فما لهم من فكرة يؤدون بها دوراً في الأرض غير الفكرة التي انبثقت منها؛ وما تنقاد البشرية لقوم لا يحملون فكرة تقود الحياة وتنميها. وفكرة الإسلام برنامج حياة كامل، لا كلمة تقال باللسان بلا رصيد من العمل الإيجابي المصدق لهذه الكلمة الطيبة الكبيرة.وتذكُّر هذه الحقيقة واجب على الأمة المسلمة ليذكره الله فلا ينساها. ومن نسيه الله فهو مغمور ضائع لا ذكر له في الأرض، ولا ذكر له في الملأ الأعلى. ومن ذكر الله ذكره، ورفع من وجوده وذكره في هذا الكون العريض.ولقد ذكر المسلمون الله فذكرهم، ورفع ذكرهم، ومكنهم من القيادة الراشدة. ثم نسوه فنسيهم فإذا هم همل ضائع، وذيل تافه ذليل.. والوسيلة قائمة. والله يدعوهم في قرآنه الكريم: {فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون}..
.تفسير الآيات (153- 157): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)}بعد تقرير القبلة، وإفراد الأمة المسلمة بشخصيتها المميزة، التي تتفق مع حقيقة تصورها المميزة كذلك.. كان أول توجيه لهذه الأمة ذات الشخصية الخاصة والكيان الخاص، هذه الأمة الوسط الشهيدة على الناس.. كان أول توجيه لهذه الأمة هو الاستعانة بالصبر والصلاة على تكاليف هذا الدور العظيم. والاستعداد لبذل التضحيات التي يتطلبها هذا الدور من استشهاد الشهداء، ونقص الأموال والأنفس والثمرات، والخوف والجوع، ومكابدة أهوال الجهاد لإقرار منهج الله في الأنفس، وإقراره في الأرض بين الناس. وربط قلوب هذه الأمة بالله، وتجردها له، ورد الأمور كلها إليه.. كل أولئك في مقابل رضى الله ورحمته وهدايته، وهي وحدها جزاء ضخم للقلب المؤمن، الذي يدرك قيمة هذا الجزاء..{يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين}..يتكرر ذكر الصبر في القرآن كثيراً؛ ذلك أن الله سبحانه يعلم ضخامة الجهد الذي تقتضيه الاستقامة على الطريق بين شتى النوازع والدوافع؛ والذي يقتضيه القيام على دعوة الله في الأرض بين شتى الصراعات والعقبات؛ والذي يتطلب أن تبقى النفس مشدودة الأعصاب، مجندة القوى، يقظة للمداخل والمخارج.. ولابد من الصبر في هذا كله.. لابد من الصبر على الطاعات، والصبر عن المعاصي، والصبر على جهاد المشاقين لله، والصبر على الكيد بشتى صنوفه، والصبر على بطء النصر، والصبر على بعد الشقة، والصبر على انتفاش الباطل، والصبر على قلة الناصر، والصبر على طول الطريق الشائك، والصبر على التواء النفوس، وضلال القلوب، وثقلة العناد، ومضاضة الإعراض..
|